ابو هتان عــضو جديد
عدد المساهمات : 5
تاريخ التسجيل : 21/02/2011
| موضوع: الثقافة العلمية مفتاح التقنية الأربعاء فبراير 23, 2011 8:41 am | |
| الثقافة العلمية مفتاح التقنية
المصدر مجلة العلوم والتقنية العدد 55 شهد أوائل القرن الثامن عشر الميلادي بداية الحركة العلمية في أوربا وإرساء جذورها عبر نجاحها الباهر في اكتشاف قوانين الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان في مختلف المجالات ، ولكن تأثير تلك الحركة لم يكن فقط على الصعيد المادي في تنمية الاقتصاد وتطوير الإنتاج أو شرح العديد من المعضلات والظواهر الطبيعية . ولكنها تعدت ذلك وامتدت بالضرورة لتفعل فعلها سلباً وإيجاباً على الصعيدين الاجتماعي والفكري ولتبدل رؤى كثيرة ومسلمات شتى ، ولتؤثر على أنماط الحياة المختلفة والتفاعلات الإنسانية المتعددة وليس ذلك بالأمر المستغرب ، فالحركة العلمية في المقام الأول نشاط إنساني يتولاه ويقوده بشر معرضون للخطأ والصواب ومن المحتم عليهم أن يتفاعلوا مع المعطيات الجارية على الساحة الحياتية بمختلف امتداداتها وتفرعاتها . وقد فرضت الحركة العلمية وجودها في المجتمعات الغربية بطريقة بطيئة ونمت نمواً تدريجياً استمدته من واقع بيئتها وتركيبتها الداخلية ، بسبب أن هذه المجتمعات لم تتعرض لهجمة شرسة على شكل موجة عارمة من العلوم والمبتكرات منطلقة من الشرق أو الغرب ، ولم تحاصرها أحدث التقنيات على شكل طوفان هائج تخدمه مختلف وسائل الاتصال والمواصلات وبالرغم من ذلك النمو المتدرج في الإمكانات والفاعلية إلا ان ردود الفعل بين النخب الفكرية لهذا المستجد الفكري تباينت فكانت هناك مواقف حذرة ، وأخرى ترى فيها عملاً يدوياً مهنياً لا يليق بالنخب الأرستقراطية وأبناء العائلات المحترمة . وبارلغم من صعوبات جمة اكتنفت مسيرة ( الحركة العلمية ) في الغرب إلا أنها استطاعت أن ترسخ جذورها في المجتمع بسبب إبداعات المنهج العلمي المتتالية في تطوير وسائل الإنتاج ، وتقديم الحلول للمشكلات الحياتية والعلمية والاقتصادية وشرح العديد من الظواهر الطبيعية التي استعصى فهمها على البشر منذ بدء الخليقة ، لقد كانت متانة الحركة العلمية تستند إلى قدرة المنهج العلمي على طرح النظرية المدعومة بالتجربة والمعتمدة على المنطق الرياضي والمفسرة لكثير من الوقائع والظواهر المألوفة ، وفي الوقت نفسه المتنبئة بنتائج أخرى غير معروفة فما تمر فترة من الزمن طالت أم قصرت حتى تتأكد تلك النتائج وتتحقق لتدعيم النظرية وترسخ القوانين وعلى الجانب النفعي فتحت هذه الحركة العلمية آفاقاً واسعة على صعيد التطبيقات وتطوير وسائل الإنتاج والرفاهية . وفي الوقت الذي انطلقت فيه مسيرة العلوم والتقنية من إنجاز إلى إنجاز لتغير معالم الحياة في العالم الغربي ، وتبدل أنماط الإنتاج وتقلب المفاهيم الاقتصادية ، وتؤثر على مختلف العلوم والمفاهيم السائدة فإنها أخذت أيضاً تشق طريقاً خاصاً ومتميزاً يبتعد تدريجياً عن المناهج السائدة بين النخب الفكرية ، وتستعصي متابعته وفهمه على الجمهور العام ، وذلك لأن مصطلحات المنهج العلمي الدقيقة ورموزه الرياضية ونظرياته المنضبطة وشروطه التجريبية كلها كانت مع توسعها وتراكمها تضيف أعباء على عملية التواصل مع النخب الفكرية وعامة الناس . ولقد استشعر رواد الحركة العلمية الأوائل في أوربا خطر هذه المشكلة فاهتم عدد كبير منهم بالتفاعل مع القيادات الفكرية والسياسية ، ومع الناس بشكل عام في محاولات مستمرة لتبسيط المفاهيم والأفكار وتوضيح المعطيات التقنية وإبراز المعاني والدلالات المرتبطة بالجهود والنتائج العلمية وكان من أبرز هؤلاء في بداية القرن التاسع عشر الميلادي الفيزيائي البريطاني مايكل فاراداي الذي أدى اكتشافه لظاهرة الحث الكهرومغناطيسي إلى اختراع المولد الكهربائي ففتح بذلك باب استخدامات وتحويلات الطاقة على مصراعيه ، لقد كان فاراداي حريصاُ على إلقاء المحاضرات العامة وتبسيط أعماله العلمية ، واشتهر بمهارته في الحوار والتشويق والإيضاح وكان مدركاً منذ ذلك الوقت المبكر في تطور الحركة العلمية لأهمية تعليم العلوم للجميع على أوسع نطاق ممكن ، لقد اصبح فاراداي المتحدث باسم الحركة العلمية في عصره والمروج لها إذ كانت محاضراته العامة ملتقى شرائح متنوعة من المجتمع البريطاني ولذا فقد عمدت الجمعية الملكية البريطانية مؤخراً إلى تأسيس جائزة فاراداي لتمنح الأوائل الذي يقدمون إسهامات بارزة في مجال التوعية العلمية للجمهور ، ومن أطرف ما يحكى عن فاراداي قصتان شهيرتان ففي نهاية إحدى محاضراته العامة عن ظاهرة الحث الكهرومغناطيسي اقتربت منه سيدة عجوز وسألته باستفزاز : وما هي فائدة الحث الكهرومغناطيسي ؟ وأجابها فاراداي بسؤال آخر " ولكن يا سيدتي .. ما هي فائدة طفل حديث الولادة ؟ أما القصة الأخرى فقد كانت في محاضرة حضرها رئيس وزراء بريطانيا آنذاك الذي سأل فاراداي : " ولكن ما هي الفائدة من الكهرباء " وأجابه فاراداي في لفتة ذكية : " إنك يا سيدي سوف تجمع الضرائب من وراء الكهرباء يوماً ما " . وقد اهتم أيضاً علماء مرموقون في القرن العشرين بعملية التواصل مع الجمعهور عبر تأليف الكتب والنشرات المبسطة وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات العامة ، وكان من أبرزهم ألبرت أينشتاين ، وإروين شرودنجر ، وريتشارد فينمان ، وستيفن هوكنجز الذي صدر له قبل عدة سنوات كتاب " تاريخ موجز للزمن " ترجم إلى عدة لغات منها اللغة العربية واحتل لفترة طويلة موقعاً متقدماً على قائمة أفضل الكتب مبيعاً في الغرب . إشكالية الثقافتين : استطاع المفكر البريطاني تشارلز سنو أن يشخص المشكلة التي كانت تتفاقم في الغرب نتيجة للخطى السريعة والقفزات الباهرة التي كانت تتحقق في ظل العلوم والتقنية ففي محاضرته الشهيرة التي ألقاها في جامعة كامبردج ببريطانيا عام 1959م طرح سنو راياً أصبح من أدبيات الفكر الغربي المعاصر ، وهو ما أطلق عليه اسم إشكالية الثقافتين ، لقد اعتبر سنو أن المجتمعات الغربية ونظامها التعليمي وحياتها الفكرية تعاني من شرخ بين ثقافتين الآداب والعلوم الإنسانية من جهة والعلوم الطبية من جهة أخرى وأكد سنو أن هذه الظاهرة تمثل خطراً كبيراً يهدد رفاهية الجتمع الغربي ، ومن مرئيات سنو في أطروحته هذه : ( أن بين المفكرين في مجالات العلوم الإنسانية وبين علماء الطبيعة شكوكاً عميقة متبادلة وسوء فهم ، مما يؤدي إلى نتائج وخيمة على مستقبل تطبيق التكنولوجيا ) .وقد أثار أطروحة سنو جدلاً كبيراً في العالم الغربي ، وما زالت آثارها تتفاعل على مختلف الأصعدة وبالرغم من أن سنو كان معنياً في أطروحته في المقام الأول بالنخب الفكرية وانعدام التواصل بين أهل التخصصات الإنسانية وأصحاب التخصصات العلمية إلا أنها في تفاعلاتها وامتداداته أكدت أن ضرورة إقامة الجسور بين الحركة العلمية وبين الجمهور بشكل عام ، ومن هذا المنطلق وجدت مقولة العلم للجميع حضوراً مميزاً في المجتمعات الغربية وأصبحت شعاراً قومياً وهاماً وأولوية بارزة في تخطيط الدول المتقدمة ، لأنها أصبحت تدرك أهمية توفر قاعدة واسعة من الجمهور تمد الحركة العلمية بالزخم والدعم ، وتزودها بالكفاءات والمواهب والقدرات ، ومن المهم في هذا الخصوص ذكر الدراسة التي أجراها البروفسور جون ميللر في عام 1970م لقياس مستوى الثقافة العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية حيث وجد أن عدداً لا يزيد عن 7% من الأمريكان يمكن تصنيفهم على أنهم مثقفون علمياً ، وذلك بمقاييس مرنة جداً ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا كانت نسبة المثقفين علمياً هي بتلك الضآلة في مجتمع علمي متقدم مثل الولايات المتحدة الأمريكية فكيف يكون الحال في الدول النامية ذات الصلة الحديثة بالحركة العلمية ومعطياتها المختلفة ؟ الثقافة العلمية لماذا ؟ إن أبعاد قضية الثقافة العلمية متعددة وآثارها متشبعة إلا أننا آثرنا في هذه العجالة أن نقتصر على المؤشرات والعموميات في هذا المجال الحيوي ، ولعل من بعض الأسئلة التي تجاوزها العالم المتقدم ولكنها ما زالت مطروحة بشكل أو بآخر في المجتمعات النامية هي : لماذا لا نترك العلوم والتقنية لأهلها من أصحاب الاختصاص يتولون رعايتها ومتابعتها وفهمها ؟ وهل من الضروري أن يكون هناك إلمام عام واهتمام متجدد لدى عامة الناس بقضايا وأطروحات الحركة العلمية ؟ أما الإجابة على هذين السؤالين فإنهما في شكل عام في طرح سنو الذي يقرر ( إن من الخطر أن يكون لدينا ثقافتان لا يمكنهما التواصل فيما بينهما في الوقت الذي تقرر فيه العلوم الجزء الأكبر من مصيرنا ) وتتضح معالم هذه الخطورة عندما ندرك أن النشاط العلمي والتقني هو نشاط بشري يحتاج إلى بيئة تحتضنه ومناخ يرعاه وقواعد تحمله وهذا لا يتوفر إلا في ظل مجتمع متفهم لطبيعة العلوم .. مدرك لشروطها .. واع لمتطلباتها .. متفاعل مع تطورها ، لقد كان الخطأ الذي وقعت فيه كثير من الدول النامية أنها تصورت أن العلوم والتقنية مجرد صناديق مغلقة ومصانع منعزلة وأجهزة متطورة وأن شراءها واستيرادها ينقلها إلى مصاف الدول المتقدمة ، وكانت الفاجعة عندما اكتشفت تلك الدول أنها استوردت واستمرت في الاستيراد بينما اتسعت الفجوة بينها وبين الآخرين ، وبقيت مجتمعاتها قابعة حيث هي ، فلا هي أنتجت .. ولا هي طورت .. ولا هي أبدعت وتنمو قائمة المشتريات وتتوالد بينما تعيش تلك المجتمعات نمطاً استهلاكياً متنامياً بمنأى عن عمليات البحث والتطوير والإنتاج إن الحقيقة التي أدركتها كثير من الدول بعد تجارب مريرة هي ما أدركه الفلاحون والمزارعون منذ عصور سحيقة ن فأنت لا تستطيع أن تجني ثمار غرسة حرمت من عناصرها الحيوية ومناخها الخاص وبيئتها المناسبة ، وهذا يعني أن لعملية نقل التقنية وتوطينها شروطاً وضوابط وآليات ، وعلى رأس قائمة الأولويات قاعدة بشرية واسعة تستشعر حماساً حقيقياً بالدور الريادي والحاسم للحركة العلمية وتهتم بمؤازرة جهود أصحاب التخصصات العلمية وتتبنى ابتكاراتهم ، وتحرص على تفهم ومواكبة المدلولات الفكرية والمعطيات الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية المترتبة على العلوم وتطبيقاتها والمرتبطة بالتراكم المعرفي والنشاط البحثي ، لقد اصبح معيار التقدم في المجتمعات الحديثة هو مدى استيعاب مواطني ذلك المجتمع للعلوم والتقنية وكفاءاتهم في التفاعل معها بكل بساطة .. إن ازدهار الاقتصاد وتطور المجتمع والقدرة على المنافسة في عصر العولمة يعتمد على التفوق العلمي الذي يحتاج إلى تواصل ودعم ومشاركة المواطنين بمختلف فئاتهم وتوجهاتهم واهتماماتهم ن ولن يتأتى ذلك إلا إذا استطاعت هذه الفئات أن تتكيف مع متطلبات الحركة العلمية .. وتستوعب حقائقها .. وتفهم مضامينها .. وتتفاعل مع عمومياتها وتهضم مسلماتها ، وهذا يقود بالضرورة إلى بوابة الثقافة العلمية . إن ثقافة المواطن هي التي تحدد اهتماماته وممارساته وسلوكياته وأولوياته ، وتبلور منطلقاته الفكرية وركائزه العلمية ودوافعه الذاتية ، ولذا فإن الثقافة العلمية للمواطن تصبح أمراً لازماً لحركة التقدم والتنمية ليكون الوعي العلمي أحد العناصر الرئيسة في الوعي العام في التكوين الاجتماعي والمنظومة الثقافية ، فنجاح الأنشطة العلمية والبحثية والتطور التقني مرهون بإرادة جماعية واعية تدفع بها إلى الواجهة الاجتماعية والثقافية والفكرية ليصبح الإنتاج العلمي نمطاً بارزاً ضمن أنماط الحياة اليومية ويكون التفكير العلمي معلماً ثابتاً في الممارسات والتعاملات . ومن منطلق أن الحركة العلمية حركة بشرية تنتج عن تدافع الناس وتفاعلات المجتمع وتداخلات الحياة ، وعلى أساس أنها أصبحت المشكل الرئيسي لملامح المجتمعات الحديثة والمحدد الأول لرفاه المجتمع وقدراته الإنتاجية التنموية ، فإن التوعية العلمية وهي الممارسة الفاعلة في نشر الثقافة العلمية تطمح إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسة وذلك كما يلي : 1ـ تهيئة تربة خصبة لإنتاج علماء وكفاءات وطوادر قادرة على الممارسة العلمية والإبداع التقني فالقاعدة الجماهيرية العريضة المتفاعلة مع الفكر والمتواصلة مع الحركة العلمية هي بطبيعة الحال ت منبت المواهب ومستودع القدرات . 2ـ توفير الشفافية العلمية التي تيسر على المواطن ماهية الفكر العلمي وعمومياته .. ومواكبة تطوره .. واستيعاب التقنيات ليستفيد منها أقصى استفادة ممكنة ، ويتعامل معها وفق ضوابطها وشروطها في ممارسة رشيدة وإدارك حقيقي لمتطلبات الحياة المعاصرة . 3ـ تطوير القدرة لدى قاعدة واسعة من الناس على فهم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية المرتبطة بالعلوم والتقنية ، والسعي إلى الإسهام في المشاركة في اتخاذ القرارات المرتبطة باختيار التقنيات .. ومواكبة المستجدات والمتغيرات … وتحديد البدائل .. وتنظيم الممارسات العلمية .. وتهيئة الأنماط الاجتماعية والمؤسسية القادرة على التفاعل بإيجابية مع طوفان الحركة العلمية والتقنية العارم . 4ـ تهيئة مناخ من الرأي العام متعاطف مع الحركة العلمية وداعم لمجابهة الانطباعات الانفعالية وردود الفعل السلبية التي تلوث مناخ الثقة والآفة اللازم لنمو الحركة العلمية وتغلغلها بشكل طبيعي في نسيج البيئة الاجتماعية . وعندما نركز على أهمية جعل الثقافة العلمية مكوناً رئيساً من مكونات الثقافة العامة للمواطن العربي ، فإن ذلك ينبثق عن ضرورة إعداد المواطن العربي ليعيش عصره بكل تحدياته وأبعاده وآفاقه ، ولا شك أن عملية نقل التقنية وتوطينها وهي هاجس قديم متجدد لدى الدول النامية ، تصبح قضية خاسرة إذا لم تتدثر بدثار الثقافة العلمية ولم تتضامن مع انطلاقات الوعي العلمي ، ولم تفلح في القضاء على ظاهرة الأمية العلمية . أما التنمية الاقتصادية ، وهي مطلب حيوي تسعى إليه كل المجتمعات فإنها لن تتحقق لأي أمة إذا لم تنشأ فيها كوادر بشرية منتشرة على ساحات العمل ومواقع الإنتاج وقاعات ( صنع القرار ) تستمد عطاءها من فهم واع لمضامين الحركة العلمية ويشحذ هممها تحد متجدد في خطى تقنية متسارعة ن وتزود مجتمعاتها بخطط مدروسة وإبداعات متلاحقة تنعكس في صورة حقيقية للرفاه والتطوير والنشاط الاقتصادي . الثقافة العلمية … تنوع وتعدد إن الثقافة العلمية مصطلح عام تنضوي تحت لوائه أنواع متعددة من الممارسات والاهتمامات والأشكال والوسائط ، وبالرغم من أن الاهتمام الرئيسي لدى المفكر البريطاني تشارلز سنو ، في أطروحته عن الثقافتين ، كان ينصب على الشرخ بين أصحاب التخصصات الأدبية والإنسانية وبين أهل الحركة العلمية إلا أن مصطلح الثقافتين فرض نفسه ليشرح ظاهرة أوسع وأشمل وهي ظاهرة الشرخ الكبير القائم بين الجمهور والذي يتأثر ويتجاوب عادة مع الأفكار الأدبية والمفاهيم الإنسانية وبين الحركة العلمية بنزعتها التخصصية ولغتها المستقلة ومصطلحاتها المنضبطة ورموزها الجافة ومعادلاتها الصعبة وإجراءاتها التجريبية المعقدة ، ومنة الواضح أن طبيعة وقوالب التوصل وأساليب التوعية اللازمة للتعامل مع نخب متخصصة في مجالات الأدب والدراسات الإنسانية ليست بالضرورة متوافقة ومتطابقة مع النهج الذي ينبغي إتباعه مع عامة الناس . وفي الوقت نفسه فإن خريطة التخصصات العلمية ذاتها تمددت واتسعت منذ أن طرح سنو إشكالية الثقافتين ، فكل تخصص أفرز مزيداً من التخصصات الدقيقة التي ابتعدت تدريجياً عن التخصص الأم ، كما أن التزاوج بين التخصصات وهو عملية نشطة ومتنامية ومتراكمة ولدت بطبيعتها مزيداً من التخصصات الجديدة والتقنيات الحديثة مما استدعى بطبيعة الحال أن تتم عمليات تثقيف وتوعية بين أصحاب التخصصات العلمية أنفسهم ، ويبدو أننا أصبحنا أمام مئات الثقافات بدلاً من الثقافتين اللتين طرحهما سنو ، ومن الواضح أن عمليات التثقيف والتوعية بين أصحاب التخصصات العلمية ستختلف عن البرامج الأخرى الموجهة إلى غيرهم من الفئات الاجتماعية والشرائح الثقافية ، لأن دارسي التخصصات العلمية يلتقون على الأقل عند حد الأدنى من الفهم المشترك والخصوصيات المتماثلة والخلفية العلمية ذات الأساس المتشابه إلى درجة كبيرة ولابد من الإشارة هنا إلى طبيعة الثقافة العلمية نفسها الموجهة إلى الجمهور تتأثر بامتداد الساحة العلمية والتطورات التقنية لتتفرع وفق تلك التشكيلات والأنماط ، وتتلون بألوانها وتتخذ سماتها ، فالتوعية الصحية والإرشاد الزراعي والتوعية الغذائية والوعي البيئي … كلها فروع للثقافة العلمية تعني بمجالات محددة ، ونتيجة لارتباط هذه المجالات مباشرة بحياة المواطن اليومية وصحته وطعامه وشرابه فإنها حظيت منذ البداية على بحضور ملموس في المجتمعات النامية ، كما أنها شهدت إقبالاً عليها يتزايد مع نمو الثقافة العلمية وتحسن المستوى المعيشي وارتفاع الوعي لدى الموطنين .. ومن برامج وتوجهات الثقافة العلمية تلك التي تهتم بشرح عمل الأجهزة المختلفة وتبسيط مكوناتها ، وهو ما يطلق عليه في أدبيات الثقافة العلمية اسم ( HOW IT WORKS ) ( كيف تعمل ؟ ) أما أحدث مثال على هذا التنوع والتوالد الذاتي للثقافة العلمية فهو ظاهرة ثقافة الإنترنت التي اجتذبت إليها فئات متعددة ، واستقطبت اهتمام مختلف الشرائح الاجتماعية لما يقدمه هذا الطوفان المعلوماتي والاتصالي المباشر من خدمات وتحديات وآثار عارمة على المستويات الفكرية والمعلوماتية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها . ومن أهم أنواع الثقافة العلمية ذلك النوع الذي يهتم بتبسيط المبادئ والأفكار العلمية وما يرتبط بها من مفاهيم ومصطلحات وتوقعات ونتائج متعددة الأوجه تمتد على مستويات فكرية وعملية مختلفة ، وطرح كل ذلك في قوالب جذابة وأطر مشوقة . وهذا النوع من الثقافة العلمية هو الذي يفتح آفاق الفكر العلمي أمام الجمهور ، ويزوده بمفاتيح الحس العلمي ، ويهيئ المواطن لاستيعاب قضايا العلوم ومشكلاته وحلوله وطرق توظيفه في خدمة المجتمع والتنمية |، ويرى المحرر العلمي الياباني الشهير تاكاشي تاشيبانا أن هذا النوع من الثقافة العلمية هو أيضاً الأصعب ، فكتابة المادة العلمية بلغة وطرح بفهمها عامة الناس موضوع يختلف تماماً عن الكتابة العلمية لمتخصصين ، وهو أمر أشد صعوبة لأنه يتطلب الابتعاد عن لغة الترميز والتشفير والمعادلات والمصطلحات التي يدرك مضمونها المتخصص ، بينما ينبغي تبسيط نتائجها ودلالتها للإنسان العادي دون الإخلال بمضامينها ودقة معانيها . وهكذا نجد أننا أمام مساحة واسعة من التنوع والتعدد على مستويات مختلفة تعكس واقع الحياة الحديثة بأشكالها المتعددة وتداخلاتها المتجددة ومضامينها المتراكمة ، وكلها تصب في وعاء الثقافة العلمية لإيجاد قواسم مشتركة وثقافة منسجمة بين المواطنين في المجتمع الحديث بمختلف فئاتهم ومشاركتهم ومستوياتهم الإدراكية والعلمية ، ولذا نشطت في المجتمعات الغربية جمعيات متنوعة في مجال الثقافة العلمية ، فالبعض يهتم بالبيئة وآخرون يختصون بالتوعية الصحية ، ومجموعات تتفاعل مع قضايا تبسيط العلوم للجمهور ومجلات ومؤتمرات تسعى إلى التقريب بين أصحاب التخصصات العلمية المختلفة . وتوضح هذه الحقائق الأبعاد الحيوية الملقاة على عاتق الثقافة العلمية وحجم المسئولية المنوطة بالمجتمعات المتقدمة والنامية على السواء وهي تدلف إلى الألفية الثالثة . وسائل الثقافة العلمية : إن قضية الثقافة العلمية قضية جامعة شاملة تبدأ من المنزل في سنوات التكوين المبكرة عبوراً بالمراحل والمؤسسات التعليمية المختلفة ومروراً بمختلف التفاعلات الاجتماعية والفكرية والفعاليات الحياتية والثقافية والتقاء بكل الوسائل المتعددة والمتجددة في عالم الاتصالات ومن أهم العناصر التي ينبغي الاهتمام بها ضرورة تحقيق حد أدنى من المعرفة العلمية لدى قاعدة واسعة من الجمهور لتوليد دوافع ذاتية ورغبة تلقائية لمتابعة مصادر الثقافة العلمية والنهل منها ، وذلك لأننا لا نستطيع أن نطالب شخصاً لا يعرف القراءة والكتابة بالاهتمام بالكتاب وحضور معارضه واختيار عناوينه ومؤلفيه ، والقضية نفسها تنطبق على حالة الثقافة العلمية ، فبدون توفير عموميات علمية تكون أساساً لبناء الثقافة العلمية فإن معظم الأنشطة الموجهة نحو بث الثقافة العلمية واستقطاب الاهتمام بها تفقد الكثير من زخمها وتأثيرها ومن هنا تبرز أهمية القطبين : التعليم والإعلام في تأمين الأرضية المعرفية اللازمة للقضاء على الأمية العلمية ، وتأسيس كيان علمي يتغلغل داخل نسيج الثقافة السائدة ، ويصبح جزءاً مكملاً وضرورياً لها في عصر الهيمنة العلمية والتقنية ، وهذا يبين الأهمية القصوى المرتبطة بتوفير نظام تربوي تعليمي متكامل يهتم بغرس التوجيهات العامة للتفاعل مع الثقافة العلمية ، وإدراك الآثار بعيدة المدى التي تحملها العلوم والتقنية للمجتمعات المعاصرة ، ومن نافلة القول فإن ذلك لن يتحقق إلا عندما تدرك المؤسسات التعليمية على مختلف اهتماماتها ومستوياتها ضرورة التركيز على المناهج التي يكون على رأس أولوياتها استيعاب مفهوم الثقافة العلمية مضموناً واستراتيجية وتطبيقاً وتطويراً ، وبلورة كل ذلك عبر الفصول الرسمية والأنشطة اللامنهجية والتفاعل اليومي المستمر عبر مختلف الأشكال والتعاملات . أما الإعلام فدوره ريادي في هذا المجال لقدرته على الوصول عبر وسائله المقروءة والمسموعة والمرئية إلى مختلف الشرائح الاجتماعية بغض النظر عن اهتماماتها الحياتية ومستوياتها الثقافية ومؤهلاتها العلمية ومداركها الذهنية ، ومن هذا المنطلق فإن أهمية الإعلام العلمي كجزء جوهري من منظومة الإعلام التنموي تصبح أمراً حيوياً ولازماً لتوفير الشفافية العلمية المطلوبة في زمن السابق المحموم بين المجتمعات على الإنتاج والابتكار والتطوير لتحقيق الرفاه والتنمية والتقدم . وإذا كانت مناهج التعليم ووسائل الإعلام هي أبرز الوسائط ذات الفعالية المؤثرة والقادرة على تحويل المجتمعات إلى تكوينات بشرية نابضة بالفكر العلمي .. ومتفاعلة مع معطياته .. ومؤهلة لقيادة حياتها نحو استفادة أمثل واستيعاب أكبر وشفافية ‘لى لآفاق الحركة العلمية فإن هناك وسائط أخرى تقوم بأدوار متلازمة ، ولها أهميتها الخاصة في مواكبة التقدم العلمي وهكذا تتضافر الوسائل المختلفة والوسائط المتعددة لتعلي من شأن العلوم والتقنية ولتنحت قواعد وأسس الثقافة العلمية ، وتعمق من تأثيراتها وتجعلها نمطاً من أنماط الثقافة العامة وضرباً من ضروب التفاعلات اليومية المعتادة ومن أهم هذه الوسائط ما يلي : * الجمعيات والهيئات العلمية : تقوم هذه الجمعيات والهيئات بدور فعال في عملية التوعية العلمية وترسيخ الاهتمام بفروع العلم والتقنية المختلفة وطرح مشكلاتها ودراسة حلولها وربط المعرفة العلمية بالمجتمع ، وتنتشر هذه الجمعيات والهيئات في العالم المتقدم وتحظى بدعم ورعاية القطاع الخاص والقطاع الحكومي واشتراكات وتبرعات الأفراد والهيئات الأهلية ، ونورد فيما يلي hسماء بعض أبرزها وعناوين مواقعها على الإنترنت : ـ الرابطة الأمريكية لتقدم العلوم : ( AMERICAN ASSOCIATION FOR THE ADVANCE MENT OF WWW . AAAS .ORG ) . ـ الرابطة البريطانية لتقدم العلوم (BRITISH ASSOCIATION FOR THE ADVANCE MENT OF WWW BRITASSOC ORG . UK ) ـ المؤسسة الملكية البريطانية : ( THE ROY INSTITUTION OF GREAT BRITAIN WWW RI AC UK ) . ـ الجمعية اليابانية لترويج العلوم : ( JAPANESE SOCIETY FOR PROMOTION OF SCIENCE , WWW JSPS ORG ) ـ أكاديمية شيكاغو للعلوم ( CHICAGO ACADEMY OF SCIENCES , WWW . CHIAS . ORG ) . ـ المركز العالمي لتقدم الثقافة العلمية : ( THE INTERNATIONAL CENTER FOR THE ADVANCEMENT OF SCIENTIFIC LITERACY , WWW . ICAST . ORG ) ـ لجنة التوعية الجماهيرية للعلوم ( COMMITTEE OF THE PUBLIC UNDERSTANDING OF SCIENCE COPUS , WWW . ROYALSOC . AC . UK . ) · المطبوعات والنشر العلمي يعد نشر الكتب والمجلات والنشرات المهتمة بتبسيط العلوم وبث الثقافة العلمية سمة بارزة في المجتمعات المتقدمة ن وظاهرة متميزة فيما أطلق عليه اسم ( POPULAR SCIENCE ) ( العلم الجماهيري ) ولقد اهتم بهذا النوع من النشر العلمي علماء مبرزون في مجالاتهم المتخصصة ، واعتنوا بتبسيط علومهم وتقديمها للجمهور في قوالب جذابة وأساليب شيقة في محاولات دائبة لبناء الجسور بين العلوم والمجتمع . · المتاحف والمعارض العلمية : تنتشر في العالم الغربي المتاحف والمعارض العلمية بمختلف اهتماماتها ومستوياتها وإمكاناتها لبث الوعي العلمي ونشر المضامين التقنية والمفاهيم العلمية بين مختلف الفئات من الجمهور ، ويسمى هذا النوع من الوسائل التعليم بالترفيه ، فهو يتيح فرصة تفاعل الزائر مع المادة العلمية بشكل مباشر في جو من المتعة والتسلية ومن هذه الوسائل الثابت ومنها المتنقل سعياً إلى الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس لرفع درجة الحس العلمي والاهتمام بالأفكار والمعطيات العلمية ، وتتنوع برامج هذه المتاحف وتتعدد عروضها لتناسب كل الأعمار والاهتمامات والخلفيات الثقافية مع التركيز على الأطفال والشباب لتشكيل رؤى علمية في فترة مبكرة من الحياة ولتعميق المبادئ والمدارك العلمية لديهم . ومن المناسب ذكر بدء الاهتمام بهذا الجانب في المملكة العربية السعودية غذ تتوفر الآن في المملكة عدة مواقع تهتم بوسائل التعليم بالترفيه من أهمها : ـ مركز جدة للعلوم والتكنولوجيا . ـ مركز واحة العلوم بحي السفارات بالرياض . ـ مركز الجبيل الصناعية للعلوم . كما أنه بدأ العمل منذ فترة في إنشاء ( مركز سلطان بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية ) بالخبر في المنطقة الشرقية ويتوقع أن يتم افتتاح المركز ـ بمشيئة الله خلال شهر سبتمبر 2002م · النوادي العلمية : عبارة عن مراكز تتوفر فيها الإمكانات المناسبة للقيام بالأنشطة العلمية المختلفة بغية تحسين مستوى فهم العلوم واستيعاب المبادئ والمفاهيم عبر التجربة والتطبيق والتفاعل المباشر ، ولهذه النوادي دور فاعل في تطوير المواهب وتنمية القدرات وتأسيس الذهنية العلمية ن كما أنها ذات أهمية ملموسة في توفير مناخ علمي ناجح وترسيخ العمل الجماعي من الممارسة والمشاركة . · الرحلات العلمية والمحاضرات والندوات العامة : تعمل الرحلات العلمية والمحاضرات والندوات العامة التي يقوم بها متخصصون علميون على ردم الفجوة العلمية بين شرائح المجتمع المختلفة ، كما أنها تلعب دوراً هاماً في تكوين جيل يستوعب المفاهيم العلمية ويتفاعل مع ما يستجد من تقنيات وعلوم . * الإنترنت لا يمكننا إغفال أهمية هذه الوسيلة الفعالة التي تتيح للفرد التفاعل المباشر مع المعلومة وتعدد مصادرها وسهولة الحصول عليها وفتح آفاق الإطلاع الواسعة وهذا يدعو بالضرورة إلى الاهتمام بإنشاء المواقع العربية ذات الطرح الجذاب المهتمة بالتوعية العلمية التي تستهدف مختلف الفئات والشرائح في المجتمع . الثقافة العلمية في العالم العربي تحتاج الثقافة العلمية في العالم العربي إلى جهود مكثفة لكي تحتل مكانها المناسب في إطار الثقافة العامة السائدة ، ولن يأتي ذلك إلا في وجود استراتيجية وتخطيط واهتمام من جهات متعددة تشمل التعليم بكل مراحله ، والإعلام بكل وسائله والأنشطة العامة التي يتولاها القطاعان الخاص والعام بكل أشكالها . إن الافتقار إلى البعد الثقافي العلمي في ملامح الثقافة العربية أمر واضح للعيان ويتطلب الأمر توجهات صادقة للتغلب على هذا القصور ، فلا يمكن لثقافة أن تنمو وتترعرع بانسجام وتناغم مع معطيات الحياة المعاصرة ومتطلباتها دون أن تستوعب ضمن أطرها العامة وتكويناتها الداخلية ملامح ثقافة علمية متنامية . وهنا يبرز دور واضح ينبغي أن تتبناه المؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية وأصحاب التخصصات العلمية والمثقفون عموماً ورجال المال والأعمال لكي تأخذ الثقافة العلمية حقها من الاهتمام والرعاية وتسهم في تأسيس البنية التحتية اللازمة للنمو الاقتصادي والتطور التقني والرفاهية الاجتماعية ، وحري بمثل هذا الأمر الحيوي أن يتخذ تعبيراً جاداً في توصيات محددة الملامح .. واضحة الأهداف لتعميق هذا المفهوم وترسيخ جذوره في نشيج البيئة العربية . ولعل الرياض عاصمة الثقافة العربية لعام 2000م ، تتبنى هذه التوصيات وتطلق هذه الدعوة لتمثل انطلاقة فكرية وثقافية ذات مدلولات بعيدة المدى … عميقة التأثير مع دخول الألفية الثالثة وما تحمله من آفاق ومعطيات تبشر بمزيد من الهيمنة العلمية والتقنية والمعلوماتية على كل مناحي الحياة . | |
|